Hit Counter

بقيّةُ اللّهِ.

 

                                                        الشاعر والإعلامي الأستاذ: زاهي وهبي

                                                   أُلقيت في مهرجان بنت جبيل الثقافي الأول

                                                 التي نظمته هيئة بنت جبيل الخيرية الثقافية "هبة"

                                                    في مدينة بنت جبيل بتاريخ 11/11/2006 م.

 

لم نكتُبْ غيرَ هذا النَّشيدَ...

ورِثناهُ عنْ أسلافٍ وَمِحَنٍ...

أهلُنا العُراةُ ملّحوا الأرضَ بأجسادِهمْ...

راقَصوا الثّعالِبَ والقَمرَ

تارِكينَ نساءَهُمْ في البِرَكِ والأنهارِ. .

أمسِ كانوا هنا

على الضِّفافِ وفي الأزقّةِ

هم أضاؤوا السّفحَ بالحنطةِ

ونَصبوا شِراكاً للعاصفةِ

لم نعرفْهُمْ

لكنّنا خرجْنا من عزمِ محاريثِهمْ

مِنْ بقايا صُوَرٍ حفظَتْها العيونُ

كأنّنا جئْنا مِنْ غِيابِهمْ

أو كأنَّنا بقيَّةُ قاماتِهِمْ

تحرُسُنا أرواحٌ لا نعرِفُها ورسائِلُ

* * * * *

أمسِ كانوا هُنا

أصواتُهمْ فالِتَةٌ في البَراري

تلمَعُ في السّاحاتِ

زيَّنوا سُطوحَهُمْ بالحِنطَةِ والعصافيرِ

الّتي قاسَمَتهُم مؤونةَ الشِّتاءِ

لمّا جَرَفَ السّيلُ مواسمَهُم

أقاموا سدّاً مِن صلَواتٍ

رفعوا رُؤوسَهُم إِلى الأعلى

حينَها، اللّهُ جميلاً،

أطلقَ في حُقولِهم شمساً وطُيوراً كثيرةً

فهلْ كُنّا أشقياءَ حقّاً

حينَ حطَّمْنا مصابيحَ الشّوارعِ، 

غادَرْنا مراويلَ المدرَسَةِ وساعاتِ الاستِظهارِ

دونَ التفاتةٍ إلى الخلفِ؟

تركْنا أسماءَنا المدرسيَّةَ بينَ طيّاتِ الدّفاترِ

استبدلناها بألقابٍ أكثرَ رجولةٍ

كُنّا صِبْيةً بِلا آباءٍ

خرجَتِ الغبطَةُ مِنْ جيوبِنا

سيّجَتِ النّساءُ أعمارَنا بالدُّعاءِ والخَرَزِ الأزرقِ

كُنّا ندخّنُ سِرّاً ونُعاندُ الأقْدارَ

وفي المساءِ نُرفرِفُ حولَ سِراجِ الأُلفَةِ

كفَراشاتِ مَوْتانا المائِلَةِ نحوَ الغيابِ

ثُمَّ نُصلّي على سَجّادةِ أحلامِنا

وفي ليلاتِ القَدْرِ لا ننامُ

كُنّا نصحو قبلَ المآذنِ

نمسحُ غَلَسَ القُرى عنْ وُجوهِنا

ننفُضُ عَبقَ الحواكيرِ

نتعثّرُ بالنّعاسِ

نُطاردُ زيزانَ الذّهبِ، وجنادِبَ الحيرَةِ

كانتْ أجملَ منَ الصّبايا فراشاتُ الضّوءِ

أبناءُ الرّجالِ الّذينَ ليسوا هنا

مواليدُ ليلةٍ شُباطيّةٍ في سنةٍ كبيسَةٍ

كُنّا نَنوءُ بكتابِ الحسابِ

نهرُبُ مِن دروسِ القراءَةِ إلى دهشَةِ اللّعِبِ

نرشَحُ تعباً ولا نتعَبُ

ندوخُ حتّى الظَّهيرَةِ

ثمّ نختبئُ في تنانيرِ الدّوالي

كُنّا صِبيةً بِلا آباءٍ

حبِلَتْ أُمّهاتُنا بِالمسَرَّةِ

طرَّزْنَ تواريخَ ميلادِنا على كشْكَشِ الأيّامِ

قبلَ الثّلجَةِ الكُبْرى

أو بعدَ حصادِ النّورِ

لم نعرِفْ أرقامَ السِّجِلِّ

ولا دوائِرَ النّفوسِ

لكنّنا حفِظْنا جيّداً أبجديّةَ البقاءِ..

* * * * *

مروحةُ أعمارِنا ظلّتْ تدورُ

....لمّا أتى الجُنْدُ فجأةً

كبِرْنا قبلَ الأوانِ

التَقَطْنا الصّورَ التّذْكاريَّةَ والأنْفاسَ

ومضَيْنا كُلٌّ في سبيلٍ وصلاةٍ

ولمّا شربَتِ الأرضُ أرواحَنا

ارتفَعْنا شُهداءَ

زَغْرِدْنَ يانِساءُ!.. زَغْرِدْنَ يانِساءُ!..

لا وقتَ لِلدّمعِ. لا وقتَ لِلبُكاءِ

زَغْرِدْنَ يا نِساءُ!. .

هذا أَذانُ الفَجْرِ

يشْطُرُ الغيمَ نِصفَيْنِ

يُبشِّرُ المُصلّينَ بأَنْ أيْنَعَتْ دِماءُ الحُسينِ

وتِلْكَ فاطِمَةُ. . تِلْكَ فاطِمَةُ. .

تَقطُفُ باقَةً منْ وردٍ وَدُعاءٍ

وترنو بِطَرْفِها صَوْبَ الجنوبِ

فيطْلُعُ قمَرٌ كَوَجْهِ مُحمَّدٍ، وتبتسِمُ سماءٌ

ويرجِعُ عاشقٌ مِنْ غَيْبَتِهِ

وتُزَفُّ لإلهِ الجُرْحِ سَناءُ

إذَنْ زَغْرِدْنَ يانِساءُ

لا وقْتَ للدَّمْعِ،  لا وَقْتَ لِلبُكاءِ

فهذي دِماؤُنا تُضيءُ قناديلَ الْمَساءِ

وهذي كفُّ العَبّاسِ

نصْفَعُ بِها وَجْنَةَ التّاريخِ

ونكتُبُ: مِنْ هُنا مَرَّ الشُّهَداءُ

إذَنْ زَغْرِدْنَ يا نِساءُ!

لا وقتَ لِلدَّمْعِ، لا وقْتَ لِلْبُكاءِ.

هذا صلاحُ الدّينِ

يرتَدي ثَوْباً مِنْ لَهَبٍ

وَيُسَمّي القُرى بِأَسْمائِها الحُسْنى

أَوْ يُسمّيها: حِطّينَ..

وهذا حِذاءُ الدُّرّةِ

أَوْ حِذاءُ الرَّضيعِ في كرْبَلاءَ

نرفَعُهُ عالِياً في وجهِ الدُّنْيا

وَنَكتُبُ في عيْنِ الشَّمْسِ:

" متى بلغَ الفِطامَ لَنا صبِيٌّ

تخِرُّ لهُ الجَبابِرُ ساجِدينا.."!.

وهذِهِ زيْنَبُ الصُّغرى تنهضُ مِنْ نَوْمِها

فتُشْرِقُ الشَّمسُ ويَعْتَدِلُ الصَّباحُ

منْ ضِحْكَتِها يمتدُّ قوسُ قُزَحٍ

وَتُمْطِرُ سَماءُ

تِلْكَ خديجَةُ

تنشُرُ جَدائِلَها على السُّطوحِ

وَتُنادي بِأَعلى صَوْتِها، أَوْ بِأعلى مَوْتِها:

بيَّضَ اللّهُ وُجوهَكُمْ

يا أهلي! يا أهلَ الجَنوبِ!

يا بقيَّةَ اللّهِ في الأرضِ! يا شُهداءُ!

زغرِدْنَ يا نِساءُ

زغرِدْنَ يا نِساءُ

زغرِدْنَ يا نِساءُ.....

زاهي وهبي