مؤتمر القاهرة الخامس                    

الحملة الدولية ضد الإحتلال الأمريكي الصهيوني

   29مارس  إلى 1 أبريل  2007

 

ثقافة المقاومة

 بين العودة إلى الذات ونموذج الوعد الصادق

محمد حسين بَزِّي (كاتب وناشر)

                                                                                                     مدير عام / دار الأمير للثقافة والعلوم ش.م.م

                                                                                                               رئيس / هيئة بنت جبيل الخيرية الثقافية

                                                                                                                                       بيروت - لبنان

بسم الله الرحمن الرحيم

ملخص:

يناقش هذا البحث أهمية تطوير ثقافة للمقاومة تعي التحديات التي تواجهها الأمة وتبني رؤية متماسكة ومتطورة لفكر المقاومة يصب في فعل المقاومة ويستقي من الفعل دروس وأفكار تشحذ الفكر من جديد في تكاملية مثمرة بين الرؤية والتطبيق، والتصور والواقع.ويقارن-ربما لأول مرة- بين فكر مالك بن نبي وفكر علي شريعتي ، ثم يربطهما بنموذج "الوعد الصادق" لنصر حزب الله في لبنان في حرب تموز 2006، ويبني على ذلك بعض النتائج.

******

أولاً:

 العودة إلى الذات ومقاومة الاستعمار في المنظومة الإفكارية لمالك بن نبي

بناء الذات ومقاومة خطط الاستعمار تشكّلان الركيزتين الأساسيتين لمشروع مالك بن نبي الحضاري، أو ما سُمّيَ بمشكلات الحضارة وبناء شبكة العلاقات الاجتماعية.

ولو كان ممكناً أن نُلخص مشروع مالك بن نبي التنويري ـ بمعزل عن منهجه في قراءة التاريخ الإسلامي ـ لقلنا أن المشروع المبثوث في كتاباته يتلخص في خمس نقاط أو "رافعات" محورية:

1- إن غنى المجتمع لا يُقاس بما يملكه من أشياء بل يُقاس بما يملكه من أفكار.

2- الاستعمار ـ من دون تمييز بين استعمار أو آخر ـ يملك مُعامِليْن: معامِل "المعمِّر" أي المستعمِر نفسه، ومُعامِل "القابلية للاستعمار" لدى الشعب المُستعمَر..ويسمّيه "مالك" في دراسات أخرى بـ "مركَّب التبعيّة" .

3 ـ معادلة صنع الحضارة: إنسان + تراب + زمن (من دون إغفال الدين الذي يشكّل منظومة القيم) = حضارة.

4 ـ تراكم التجارب وحركيّتها في المجتمع من أجل التطوير والتحديث نحو الأفضل والأحسن.. وهو ما يراه بن نبي الفرق الجوهري بين المجتمع الطبيعي أو البدائي.

5 ـ مفهومَيْ "الصحة" و"الصلاحية"والتفريق بينهما..

فالصلاحية هي مقياس أخذنا للنصوص والأفكار العامة، أما مدى "صحة" هذا النص فشأن العلماء، بل ننظر نحن إلى صلاحية النص لمجتمعنا وأفراده فإن كان صالحاً أخذنا به، وإن لم يكن صالحاً تركناه لغيرنا كي يختبر صلاحيته، فمالك بن نبي يدعو إلى عدم رد النصوص والحكم عليها بالخطأ لمجرد عدم صلاحيتها، وإنما يدعو إلى تركها مرحلياً وإلى الأخذ بما هو صالح في الوقت نفسه..وتفعيله.

وبالخلاصة يرتكز مشروع مالك بن نبي في بناء الحضارة على مفصليْن ارتكازيين هما:

1 ـ العودة إلى الذات من خلال التفاعل بين عالم الأشخاص وعالم الأفكار وعالم الأشياء، وطبقاً للمعادلة الثلاثية التي تفيد أن ناتج الحضارة يتكوّن من (إنسان + تراب + زمن "محدّد، مع إضافة منظومة قِيَميّة متمثلة بالدين"، ومن ثم الأخذ بكل ما له صلاحية للأمة من نصوص التراث مع عدم رد ما لا يصلُح.

وهذه العودة أيضاً تتحقّق بأن تدرك الأمة الفارق بين (الحضور) و(الوجود)، وقد حدّد مالك بن نبي رحمه الله أننا أمةٌ موجودةٌ ولكن غير حاضرة، فـ وجودنا يعني وجود مجتمعٍ وثقافةٍ وعلاقاتٍ وإنتاج.. لكن حضورنا يستلزم - طبقاً لمفهوم الحضارة - شروطاً من أهمّها أن نكون أمةً تستطيع أن تحقق مفهوم الشهادة على العالمين، والشهادة تستلزم أن نصيغ نموذجاً بشرياً يجعل جميع مَن يراه يوقنُ أنه النموذج الأمثل، وأنَّ تركَ ذلك النموذج بشكلٍ متعمدٍ فيه خسارة للإنسانية.. وبهذا المعنى نقول أننا لسنا إلى هذه اللحظة في هذا الطور لأننا أمة موجودةٌ وجوداً مادياً ولكنها غير حاضرة لأنها غير شاهدة.

2 ـ مقاومة المستعمِر من خلال ثقافة مقاوِمة تتلخص بنبذ "القابلية للإستعمار" سواء كانت تلك القابلية ذاتية ناشئة عن العجز، أو كانت مفروضة من قِبل المستِعمر نفسه، ويتم ذلك من خلال عملية التغيير التي أسسها مالك على قاعدة الآية القرآنية التي تربط التغيير الخارجي للمجتمع بتغيير ما في النفس أي بتغيير حزمة الشروط في المجتمع.

وأيضاً بعدم الوهن الذي ورد في الحديث الشريف وذلك من خلال بذل الحياة الفردية في سبيل التقدّم (وهو عكس: كراهية الموت)، ومن خلال نبذ التعلّق بالحياة القائمة على البذخ والاستهلاك وسيادة السلعة (أي: نبذ حب الدنيا).

ثانياً:

العودة إلى الذات ومقاومة الاستعمار أو الاستثمار أو الاستحمار في المنظومة الإفكارية لعلي شريعتي

تتجسد مشكلتنا الراهنة في أننا نعيش في عصر تطرح فيه قضايا العولمة والعالمية، وتنميط البشر، والغزو العسكري المباشر وغير المباشر، ومسخ الهوية، خصوصاً هوية الُمقدّس، ليتماهى مع الرؤية الأوروبية المادية.

وأوجز شريعتي بعقله الفاحص ومنطقه المتماسك وبيانه الرفيع، الصورة المادية لعقل الغرب المستعمِر، الذي سعى ويسعى إلى تنميط الصورة التي يصوغها هو وفرضها على بقية الشعوب.

وعلي شريعتي  هو أحد المفكرين البارزين الذين أصّلوا نظرياً ومارسوا واقعياً تلك المواضيع التي تتعلق بالهوية وضرورة العودة إلى الذات والمقاومة الثورية لمشاريع الاستعمار في محاولة جادة وصادقة منه لتوصيف حقيقة المآزق التي تعيشها الأمة وطرح الحلول لها.

وكل قاريء لمشروع علي شريعتي الحضاري يتلمس بعمق أنه صاحب ذمّة عالية في عالم الفكر والسياسة والاجتماع والدِّين، ولأنه مفكّر موسوعي غزير الانتاج يصبح من الصعب على الفرد منّا أن يحيط بمفاصل مشروعه الثقافي العام من دون اللجوء إلى دراسات موسعة تستغرق الكثير من الوقت.

وجرياً على الأسلوب الذي اتبعتُه في تلخيص مشروع مالك بن نبي الحضاري الذي يتقاطع مفصليّاً مع الكثير من طروحات علي شريعتي، فإنني ألخص مشروع شريعتي في ثلاث نقاط (رافعات) ، مع الإشارة إلى أوجه التقاطع بينه وبين مالك بن نبي.

1 ـ العودة إلى الذات..

وهذا المفهوم من المفاهيم التعميرية المرموقة في منظومة على شريعتي الإفكارية إن لم يكن هو الأبرز والأهم والأشمل، فحرث فيه شريعتي طويلاً واعتبره المصدر الينبوعي لكل المفاهيم الفرعية الأخرى.

ومعنى العودة إلى الذات عند شريعتي هو "العودة إلى الثقافة والأيديولوجية الإسلامية، وإلى الإسلام، لكن لا كتقليد أو وراثة أو كنظام عقيدة موجودة بالفعل في المجتمع بل إلى الإسلام كأيديولوجية وإيمان..".

وانتقد شريعتي "الذات الممسوخة"، ودعا إلى "إخلاء الذات" من التقاليد الالتقاطية، واعتبر أن مفهوم إخلاء الذات من المفاهيم المعاوِنة لمفهوم العودة إلى الذات، حيث يمكن للمجتمعات العربية والإسلامية أن تتغير عن طريق وعيها ومعرفتها بأنها ممسوخة ومقلِّدة أولاً، ثم تمارس عملية التخلية من هذا المسخ والفساد ثانياً، ثم تُعيد بناء نفسها عن طريق عودتها لذاتها الناصعة ووعيها المستقل ثالثاً.

إذا تحقّقت العودة إلى الذات في المجتمع، أصبحت تلك الذات ذاتاً ثورية بتعبيره، وذاتاً مقاوِمة بتعبيرنا، فتتسلّح بالوعي المستقلّ والإيمان، وتبدأ بممارسة نهضتها من خلال مقاومتها لـ "الاستحمار = الاستعمار = الاستثمار" المباشر وغير المباشر، سواء كان استحماراً قديماً أي بأساليب قديمة كإثارة الخلافات الطائفية والمذهبية والنزاعات الدينية من أجل تمرير مشاريع الاستعمار والنهب، أو استحماراً جديداً أي بأساليب مبتكرة وجديدة.

وصف شريعتي الدين الإسلامي بأنه دين الوعي الثوري الاحتجاجي ذو الإيديولوجية الكفاحية، ووصف الذات الثورية التي عادت إليه بأنها ذات مناضلة اجتماعياً تستند إلى "النباهة" أولاً، و "العمل" ثانياً، و "العبادة" ثالثاً، وبذلك تكون قد استعادت "فعاليتَها الاجتماعية" بصورة ركيزيّة، وتكون أيضاً قد استيقظت من "قرون النوم" الطويلة بحسب وصف مالك بن نبي لتمارس دورها الرائد في الحياة الحضارية.

مفهوم العودة إلى الذات عند شريعتي ـ من خلال منهجية بناء الذات الثورية المناضلة ضد المسخ والفساد من الداخل ومقاومة الاستحمار من الخارج ـ تقاطع مع السياق الحضاري لمالك بن نبي في نظريته المتمركزة على التفاعل بين عالم الأفكار والأشخاص والأشياء.

2 ـ جغرافية الكلمة

شكّل هذا المفهوم قاعدة موضوعية في مكتوبات شريعتي، وفسّره بقوله: "أقصد بجغرافية الكلمة أنه يمكن معرفة صحة قضية فلسفية أو علمية أو أدبية أو بطلانها بمعايير المنطق والإستدلال والتجربة.

لكن بالنسبة للقضية الإجتماعية ينبغي أن تكون لدينا معلومات عن زمانها ومكانها ثم نقرّر في شأنها، لأنه في العلوم تكون القضايا إما صحيحة أو غير صحيحة، لكن في المجتمع والسياسة ليس الأمر بهذه البساطة، لأن كل القضايا الاجتماعية ذات ارتباط وثيق بالمعايير الخارجية، والقضايا الالتزامية ينبغي أن تتدخل مباشرة في الحكم عليها لأنه أحياناً تكون قضية ما صحيحة في حدِّ ذاتها، ومنطقية ومعقولة وذات قيمة، ويكون طرحها في أرضية معينة وفي زمان معين مرضاً وانحرافاً وفساداً وكارثة.

وعلى العكس تكون قضية ما خرافة في حدِّ ذاتها ولا منطق لها وغير صحيحة من وجهة نظر الواقع الفلسفي والعلمي أو الفني والأدبي بل وتكون أيضاً قبيحة ومبتذلة، بينما قد تكون هي ذاتها في أرضية معينة وفي زمن معين عاملاً ايجابياً بنّاءً."

ويقول شريعتي: "إن غفلتنا عمّا أسمّيه جغرافية الكلمة تركَ ميدان المجتمع خالياً ودون عقبات أمام الإستعمار المحتال الخبير في الغرب، لكي يستطيع بطرح ما هو قابل للرد من الناحية الفلسفية والعلمية والأدبية والفنية أن يحول دون ما ينبغي طرحه بالفعل."

     نظرية جغرافية الكلمة عند شريعتي تقاطعت بامتياز مع مفهومي (الصحة والصلاحية) عند مالك بن نبي، وقد تمّ توظيف النظريتين بإحكام كقاعدتين لتنظيم أسلوب التفكير والسلوك في المجتمع المسلم.

3-أصالة الإنسان في الإسلام والوحدة التاريخية..

     الإنسان هو محور الدين، ومحور التشريعات والرسالات السماوية، والدين بنظر شريعتي إنما له اتجاه واحد من السماء إلى الأرض، أي إلى الإنسان، وليس الدين من الأرض إلى السماء، أي ليس هناك دين لأجل الدين.

    والوحدة التاريخية بنظر شريعتي مصطلح علمي له أصله الفلسفي والعقائدي في الإسلام.. فالحوادث المتفرقة التي تقع في مقاطع زمانية ومكانية مختلفة إنما تسير باتجاه واحد وترتبط فيما بينها ارتباطاً منطقياً وفق قوانين العليّة، وتشكل كل واحدة منها حلقة في سلسلة متصلة منذ بداية التاريخ البشري "آدم" إلى نهاية نظام التناقض والنزاع في التاريخ، وهذا ما يُطلق عليه اسم "التسلسل المنطقي والحتمية التاريخية".

    وهذا يعني أن شريعتي يؤمن بالحتمية التاريخية ولكن لا على أساس الصراع الجدلي الأعمى الذي يكون فيه الإنسان مجرد ألعوبة لا إرادة له، وإنما على أساس القوانين المنطقية التي تجعل الإنسان مختاراً في أن يفرض إرادته على إرادة التاريخ. قال تعالى: "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ".

    ومع ذلك فإن شريعتي لا يقلّل من أهمية التاريخ بل أنه يعترف بسلطة التقاليد والأعراف ولكن في الإطار الصحيح لا غير، وليس: "التاريخ عبارة عن أكاذيب وابتداعات يصدقها الجميع" كما يدّعي (نابليون) ، وليس التاريخ "علم صيرورة الإنسان" كما يقول البروفسور (أوت شاندل) ، ولكن يجب أن يكون ذلك تابعاً لإرادة الإنسان واختياره وليس العكس وقد صرّح القرآن بذلك مراراً.

    هذا يعني أن للأعراف والتقاليد دورها الكبير في سلوك الأفراد ولكن قد يكون التاريخ مشوهاً نتيجة الجهل والعصبية والأطماع والسلطة.. عندئذ يأتي دور الأنبياء والرسل والمصلحين كي يصحّحوا مسيرة الإنسانية.

    فمثلاً إن حركة الإمام الحسين "ع" ليست حركة مبتورة ولم يخرج الحسين لأجل مقاومة يزيد فقط، بل كانت حركة الإمام الحسين امتداداً لحركة واحدة تجري في تيار الزمن وتنتقل من آن إلى آن، هي عبارة عن حركة رسالتها التاريخية إنقاذ الناس وتكامل الإنسان. في مقابل هذه الحركة الإسلامية تقف القوى الأخرى المحادّة لله والمحاربة للناس وهي أيضاًً تتوارث تاريخها الملطخ بدماء المستضعفين جيلاًً بعد جيل، ولهذا فالحرب قائمة دائماً وفي كل مكان بين محورين (الله وإبليس) (هابيل وقابيل) (إبراهيم والنمرود) (موسى وفرعون) (يحيى وهيرودس) (عيسى وقيصر) (محمد وقريش) الخ..

    والسبب من وجهة نظر شريعتي هو: "ثلاثي التاريخ المشؤوم" (السلطة، الاقتصاد، الدين المنحرف)    مثلّث قاعدته المال، وضلعاه السلطة والتديّن المنحرف.

يتقاطع علي شريعتي هنا بقوة مع مالك بن نبي، في تأصيل الإنسان من ناحية، وفي شروط التغيير الاجتماعي النابعة من مسؤولية الفرد المسلم واختياره، وفي مقاومة الظروف الداخلية التي تستغل الإنسان وتشدّه نحو الأسفل، وكذا مقاومة الظروف الخارجية الناتجة عن استغلال الاستعمار، وبالتالي فإن الخيط الناظم الذي يجمع بين المنظومتين الإفكاريتين لكلا العملاقين هو: العودة إلى الذات وثقافة المقاومة.

ثالثاً:  نموذج الوعد الصادق بين منظومتيْ: العودة إلى الذات وثقافة المقاومة

    لو طُلب مني أن ألخّص منظومَتَيْ ابن نبي وشريعتي بثلاث كلماتٍ فقط لقلتُ من دون إبطاء أو زحزحة: الحرث، والانغراس، والتعمير..

    ولو طُلب منّي أن أوصّف نموذج الوعد الصادق من خلال العلاقة التفاعلية بين أداء رجال المقاومة وخلفيّتهم الفكرية والثقافية لقلتُ: حرثوا وغرسوا وعمّروا..

    وبعبارة أسْطَع وأضْحَى: المقاوِم هو ذات منغرسة اجتماعياً في علائقيّة تعميرية متراحمة، وجذور تثميرية راسخة، ومستقبليّات واعِدة.

    المقاوِم خرج من فرديّته ليتحوّل إلى مواطن صالح داخل الدار العالمية للثقافة والفكر والأخلاق والعمل والعبادة.

    ولكي ندخل إلى التلافيف الجوهرية الرابطة بين المفهوم النظري للعودة إلى الذات والمقصد العملي لثقافة المقاومة، لا بد لنا من الدخول إلى الثلاثيات المفقودة التي جذّرها المقاومون من خلال نموذج الوعد الصادق..

ثلاثية الانتصار:

ما هو النصر؟

كلّ فردٍ جعل لنفسه هدفاً أو مجموعة أهداف ثم عمل على تحقيقها وأتمها، فهذا الفرد يكون قد انتصر.

وكل جماعة وضعت نصب عينيها هدفاً أو مجموعة أهداف وعملت على إنجازها وتحقيقها، وحققتها، فهذه الجماعة تكون منتصرة.

وكل فردٍ أو جماعة، واجهت عدواً، ومنعته من تحقيق أهدافه، فإن هذا الفرد وتلك الجماعة، تكون منتصرة.

فالانتصار له وجهان: إما أن تحقق الجماعة أهدافها.. وإما أن تمنع الجماعة عدوّها من تحقيق أهدافه.

فإذا حققت الجماعة أهدافها، وفي الوقت نفسه منعت العدو من تحقيق أهدافه، فالنصر يتحول إلى "نصْرَين".

وهناك نصر ثالث في البين.. وهو شخصية القائد.

فالقائد الجامع للصفات القيادية الحاسمة، من الوعي والإيمان والمسؤولية والنزاهة والإطلاع على دقائق الأمور ومتابعة شؤون الناس باهتمام، يلعب دوراً مهماً في إيصال الجماعة إلى أهدافها.

إن قلتْ: أن هناك الكثير من القادة الذين جمعوا هذه الصفات أو المواصفات بل أكثر منها، لم ينجحوا في إيصال الجماعة إلى أهدافها، فكيف تصف شخصية القائد بأنها "نصر"؟

قلتْ: إن شخصية القائد المنصوص عليها هنا، جمعت عنصراً آخر لم يتوفّر للكثير من القادة الصالحين عبر التاريخ، ألا وهي ثقة شعب العدو وبعض قادة ذلك العدو من المدنيين ـ إن صحّ التعبير ـ والعسكريين بهذا القائد وصدقه وشفافيته وأخلاقه..! وهذا عامل حاسم في اعتبار شخصية القائد بحدّ ذاتها "نصر".

جذّرت مسلكية المقاومة في مواجهة الحرب العدوانية التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل على لبنان "نموذجاً" لهذه الثلاثية الرائدة، التي قلّما جمعتها أمة في تاريخها، حيث استطاعت أن تحقق أهدافها، وأن تمنع العدو على حدٍّ سواء من تحقيق أهدافه باعتراف العدو الصريح والواضح، وأن تمتلك في الوقت عينه شخصية القائد التي تختزن النصر والتي حملت اسم "نصر الله".

النصر ليس نصراً واحداً، بل هو ثلاثة انتصارات..

 

ثلاثية "الخلفية الإيمانية، والإعداد، والقيادة الحكيمة.

الخلفية الإيمانية:

شكّلت الخلفية الإيمانية بكافة تشعّباتها أرضية خصبة للمقاومين، درجوا عليها منذ نشأتهم، ورضعوها في طفولتهم، واشتدّت لحمتها في بيئتهم التي تُعتبر مدرسة حقيقة لتخريج الثائرين على الظلم، الرافضين للفساد، المتعطشين للعدل والحرية، الذين يرفضون الذلّ والهوان، ويتمسكون بالكرامة والعزّة، ولا حياة لأفراد هذه البيئة خارج هذه التوصيفات.

إنها مدرسة متكاملة للمسؤولية الدقيقة أمام الله تعالى، ومن هنا نفهم كيف يثبت هؤلاء المقاومون أمام الأهوال، ويُخاطَبون بـ "تزول الجبال ولا تزول أقدامكم".. هذه الحقيقة، أنتجتها خلفية المقاوِم الإيمانية.

الإعداد والأخذ بالأسباب:

لم يترك المقاومون شؤونهم للمصادفات، ولم يركنوا للظروف على علاّتها، بل استمدوا من قرآنهم ضرورة الإعداد ما استطاعوا من عناصر القوة لمواجهة عدوّهم، فأخذوا بقوله تعالى "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ".. فأعدّوا ما استطاعوا بالفعل، وبذلوا جهداً كبيراً في عملية الإعداد.

ولم يكتفِ المقاومون بما حقّقوه من انتصارات خلال فترة مقاومتهم الطويلة لأعداء الأنبياء والإنسان، كما لم يكتفوا بالإعداد الجيّد بل أضافوا إلى هذه العناصر عنصراً جديداً، استلهموه أيضاً من قرآنهم ألا وهو عملية الأخذ بالأسباب العِلمية والعملية، وهذه الأسباب تشمل التدريب العملي على ما في أيديهم، وتشمل أيضاً تطوير ما في أيديهم من وسائل ومعدات، وقد نجحوا في هذا الأمر نجاحاً كبيراً، شهد به العدو قبل الصديق. وهذا الأمر ذكره الله تعالى في قصة ذي القرنيْن، فبعد أن أعطاه الله الأسباب "أَتْبَعَ سَبَباً".. فلم يجلس مكتوف الأيدي ليستمتع بالأسباب التي أسبغها الله عليه، بل نهض للأخذ بالأسباب وللتفتيش عن المستضعفين والمظلومين أينما كانوا من الأرض ابتغاء نصرهم وإعزازهم.

القيادة الحكيمة:

عرّفنا القيادة فيما سبق من القول، وقلنا أن القيادة تلعب دوراً هاماً في صنع النصر بل تكون هي بحدّ ذاتها "نصراً"..

إلا أن القيادة الحكيمة لا تأتي أولاً، وإنما تأتي ثالثاً في ترتيب الأولويات. لأن القائد الحكيم بالغاً ما بلغ لا تنتفع الأمة منه في تحقيق النصر ما لم يكن لديه من الأتباع ثلّة مؤمنة مدربة واعية! فكم من قائد حكيم مرّ في تاريخنا وهو يتحسّر على مجموعة رسالية تنهض معه لتحقيق المباديء ونشر الخير والفضيلة فلم يجد.. ولو أردت أن أورد أمثلة لذلك لطال بنا المقام ولخرجنا بمجلد كامل إن لم نقل بمجلدات.

ثلاثية الخلفية الإيمانية والإعداد والقيادة الحكيمة، جلّاها مجاهدو المقاومة الإسلامية بأسطع تجلياتها في معركتهم الأخيرة في مواجهة العدوان الإسرائيلي الوحشي على لبنان.

 

ثلاثية المقاوم "المقاوم المجاهد، المقاوم الصامد، المقاوم الرَّافد":

المقاوم المجاهد:

المقاوم المجاهد هو المقاوم الذي امتشق سلاحاً في مواجهة العدو، أو هو المقاوم الذي يقوم بأي دور تسنده إليه القيادة العسكرية في الميدان.

هذا المقاوم، هو الذي يصنع النصر في الدرجة الأولى، وهو الذي يتحمل مسؤولية مواجهة العدو، وعليه تتوقف "بوصلة" المعركة، فإن انهزم! انهزمت الجبهة.. وإن ثبت وصير! انتصرت الجبهة، فهو "ميزان" المعركة وعليه تتوقف نتائجها.

هذا المقاوم، عرفته الأمة في المواجهات الأخيرة إن لم نقل عرفه العالم أجمع.

المقاوم الصامد:

المقاوم الصامد، هو المواطن الذي ثبت في مكانه وصمد في أرضه، وكان مكانه من الأرض يقع ضمن الدائرة التي يستهدفها العدو بنيرانه.

نموذج هؤلاء المقاومين شهدناه بكثرة، ومن بين هؤلاء كان العدد الأكبر من شهداء الوطن، بل إن الهجمة الشرسة للعدو تركّزت على هذه الفئة من المقاومين بعد اليوم الخامس تقريباً من بداية العدوان، وكل مَن تابع شريط الأحداث الميدانية على الشاشات المرئية يتيقّن من أن ثلثيْ هجمات العدو الجوية والصاروخية استهدفت عائلات هؤلاء المقاومين الصامدين ومن كل الفئات والأعمار.

المقاوم الرافد:

وهو الشخص أو الهيئة أو الجماعة أو المؤسسة التي ترفد المقاومين الصامدين والمجاهدين بأي نوع من أنواع الرِّفادة.

والمقاومون الرَّافدون ليسوا بالضرورة من المواطنين اللبنانيين حصراً بل قد يكونوا على امتداد العالم أجمع، ووقفة الشعب المصري العزيز المشهودة المشكورة؛ أجلَى من أن توصف.

وأنواع الخدمات التي قدمها المقاومون الرافدون كانت كثيرة ومتنوعة، سواء على مستوى الكلمة المعبِّرة في الإعلام أو في التجمعات المناصرة للمقاومة، أو في التظاهرات الحاشدة، أو في المساعدات الطبيّة أو العينية أو المادية، أو أي شكل من أشكال الدعم، هؤلاء بحق هم من المقاومون الذين رفدوا المقاومة بقسميها: المجاهد والصامد.

هذه الثلاثية المباركة للمقاومين: المجاهدين والصامدين والرافدين تجلّت ناصعة بأبهى صورها في مواجهة العدوان الارهابي الصهيوني الأمريكي الأخير على لبنان.

هاتان الثلاثيتان عايشناهما ميدانياً، ومنهما نتوصل إلى السياقات الحضارية الدافعة المتضمنة ثلاثية علي شريعتي "المنهج، الإيمان، التضحية" التي يساوقها ثلاثية مالك بن نبي التفاعلية "عالم الأفكار وعالم الأشخاص وعالم الأشياء".

ويرمز شريعتي بكلمة "المنهج" إلى كل أبواب المعرفة التي يستطيع الإنسان أن يراكمها خلال مشوار حياته، وخصوصاً تلك الأبواب من المعرفة التي تساعد الفرد على خدمة الإنسان في مجتمعه قبل الانتقال إلى خدمة الإنسانية في المجتمع الكبير.

ويؤكّد شريعتي على أن "المنهج" يجب أن يكون موضوعياً وجريئاً بحيث يمكّن الإنسان من اكتشاف الحقائق، ويحمل هذا المنهج في طيّاته على الدوام ملامح الإسلام الأولى بكل عناصرها الإنسانية لناحية تأصيل العلاقات الاجتماعية القائمة على الأخوة والمحبة والتعاضد.

أما "الإيمان" فإنما يكون من وجهة نظر شريعتي "أمام كعبة الله"، أي في تقديس كل ما له ارتباط بالذات الإلهية، سواء على مستوى العقيدة، أو على مستوى فهم التعاليم واحترامها، أو لناحية تثميرها، والالتزام بها.

وأما "التضحية" فتكون أمام "بيوت الناس". ورمز شريعتي بذلك إلى أن تحقيق المباديء على مستوى المنهج وعلى مستوى الإيمان؛ بحاجة للدماء من أجل تحقيق العدل والحرية والعيش الكريم لعامة الناس.

فالقرآن يرمز بفرعون إلى السلطة الحاكمة الظالمة الغاشمة.. ويرمز بقارون: إلى السلطة الاقتصادية الشرهة.. وببلعم بن باعوراء: إلى السلطة الدينية الرسمية، أو ما اصطلح على تسميته بوعاظ السلاطين.

 

ثلاثية في مقابل ثلاثية...

لا نستطيع أن نحصي عدد المؤسسات العاملة التي أسستها المقاومة في لبنان لخدمة الناس، ولا الخدمات المتنوعة التي يقدمها أفرادها لعامة الناس من كل الألوان والأطياف، ولكننا نستطيع أن نقول إن خير ما يعبّر عن منهج المقاومة في إطار الخدمات ما جاء على لسان سيد شهدائها الأمين العام السابق لحزب الله الشهيد السيد عباس الموسوي مخاطباً المواطنين "سنخدمكم بأشفار عيوننا". وكفى بها من كلمة معبِّرة.

"المنهج الإيماني" في شرع المقاومين يتمحور على إيصال النفع للناس وخدمتهم حتى ولو كلفهم ذلك "التضحية" بأنفسهم وبذل دمائهم.

فالمقاوم عندما يدافع عن الأرض التي هي أرض الناس، وعن أرزاق الناس، وعن أعراض الناس، ويسقط شهيداً مضرجاً بدمائه في سبيل ذلك، فهل يعني ذلك غير أنه ضحّى أمام "أبواب الناس"!.. نعم، لقد ضحّى أمام أبواب الناس.

إن قلتْ: المقاوم يعمل في سبيل الله ويجاهد في سبيل الله ويستشهد في سبيل الله، فكيف تقول بأنه يعمل ويجاهد ويستشهد في سبيل الناس!؟

قلتْ: النتيجة واحدة، سبيل الله هو سبيل الناس.. فالله في صف الناس، في صف الفقراء، في صف المستضعفين، وليس في صف فرعون وقارون وبلعم بن باعوراء ومَن والاهم.

بل بقليل من التأمل نجد أن ما نسبه الله تعالى في القرآن لنفسه على المستوى الاقتصادي والمادي والاجتماعي هو للناس بلا منازع.. قال تعالى: "مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ"، والحال أن الله تعالى غني عن العالمين، والقرض يكون لعباد الله الفقراء والمحتاجين.

وضمن هذا السياق اكتنز شريعتي مفهوماً ابتكارياً حيث قرّر أن القرآن الكريم قد ابتدأ بكلمة (الله) واختتم بكلمة (الناس) بل إن السورة الأخيرة من القرآن الكريم قد سُميت بسورة الناس، وبمجرد أن نفتح القرآن ونلقي نظرة عادية على أوله وآخره نلتفت إلى أن الإسلام يعتمد أساساً على كلمة "الله"، وكلمة "الناس"، دون أي التفات للَّون والعنصر والشكل والطبقة، فالحركة القرآنية بين المُفتتح والمُختتم في الكتاب العزيز هي حركة تبادلية بين الله والناس.

والآيات والنصوص التي تشهد على ارتباط رضا الله تبارك وتعالى بخدمة الناس أكثر من أن تُحصى في هذه العجالة.

لقد سطّر المقاومون ثلاثية "المنهج الإيماني المُضحّي" جليّة واضحة أمام أعيننا كأروع ما تكون التضحية في مواجهتهم للعدوان الأمريكي الإسرائيلي الغاشم على لبنان.

هذه الثلاثيات هي ترجمة حيّة وناطقة للبناء الفكري والعقائدي والعملي لكل مقاوم وشريف في أرجاء الأرض، وهي تعكس نقاط التقاطع التي تكلمنا عنها في إفكاريتَيْ شريعتي وابن نبي ترجمها المقاومون في لبنان ماضياً وحاضراً، بل يستطيع المُنصف أن يتأمل ما تقدّم بعناية ويقايسه بما شاهده وسمعه وقرأه عن المقاومين خلال الحرب وقبلها، ليتأكد من جديّة هؤلاء المقاومين الأسطورة في أقوالهم وأفكارهم وأعمالهم وقلوبهم وإيمانهم وتضحياتهم.

 

والحمد لله رب العالمين.